الثلاثاء، 25 مايو 2010

هناك......وهنا !!

الجميع حول القصر يتنزه فى سلام والحمام المتناثر هنا وهناك يسير دون خوف ان يصبح مصيره الى صينيه بطاطس او محشيا بالفريك ....
الاطفال يلعبون بدراجاتهم ويتصارخون بلا تعليمات ضابط او امين شرطة .......امشى يابنى العب بعيد ......طب وحياة اهلك لو ما مامشيتش لاطلع تيت تيت تووووووووووووووووووووووت
شرطية جميلة بجدائلها الذهبية تنسال على كتفيها لا تمنع هيبة تشع من زيها الرسمى ولكن ابتسامتها تجعلك تتمنى ان تصبح متهما فقط لكى تنظر لتلك العيون الزرقاء التى ابدع الله فى خلقها - تمتطى فرسها الانجليزى الضخم وتسير بكبرياء .....وقع حوافر فرسها تعزف ايقاعا جميلا لا تمل اذنك من سماعه رغم رتابته ....
حرصها الشديد لم يمنع الفرس من ان ينحرف فجاة لتجد نفسها فى مواجهة طفلة لم تتعد الثامنه تسير بدراجتها الجبليه فتصرخ البنت بشدة من الرعب رغم ان الفرس لم يصبها بسوء والمسافة بينهم بعيدة
ترجلت الشرطيه بسرعة عن حصانها وطمأنت البنت واخرجت من جيبها بعض الحلوى وجعلتها تقترب من الحصان وتداعب راسه بيدها ....... هدأ اضطرابها وتحول وجهها الخائف للابتسام..... تبادلا بعض الكلمات والضحكات وعادت لدراجتها وهى تلوح للشرطية بالسلام
غابت البنت عن العيون ورجعت هى لتمتطى حصانها ولتكمل عملها فى حراسة قصر باكنجهام .......لندن

فلاش باك
حلوان صيف 1994 / معسكر اعداد القادة لطلبة جامعات مصر


بعد اربعة ايام من بداية المعسكر وبعد ان تعارف الجميع والتقى الشامى بالمغربى وطالب طب اسيوط بحقوق عين شمس وهندسة السويس بتجارة المنصورة وبعد ان تآلفت المجموعات تلقائيا وعرف الجميع انه اسبوع لازم نقضيه بالطول او بالعرض من اجل ان نحصل على التمانين جنيه المكافاة فى اخر المعسكر .
كانت مجموعتنا تتكون من سبعة شباب لا يجمع بينهم غير مكان واحد للنوم كنا نسميه عنبر العقلاء..... كانت اتجاهتنا السياسية والفكرية مختلفة .... كنا على كل لون يا باتيستا ولكن يبدو ان الذى جعلنا مختلفين عن بقية الطلبة اننا كنا صوت المعارضة الوحيد ....لم يكن يعجبنا شئ بدءا من حال البلد لحد حال المطبخ والاكل اللى كان مصروف عليه كتير .......وهوه مش قد كده!!
تفاهمت المجموعة بسرعه رغم اختلافنا وعندما علموا اننى طالب بالاثار طلبوا منى ان اكون مرشدهم للمتحف المصرى حيث انهم من الاقاليم والفرصة ربما لن تتكرر مرة اخرى.......وافقت بسرعه وبما انهم لا يفقهون شيئا فى التاريخ فسيكون سهلا على ان اتكلم براحتى ......
ذهبنا للمتحف وقمت بدور المرشد على اكمل وجه ولم يخل الامر من سؤال لا اعرف اجابته الا ان التاليف منذ الصغر كان من هواياتى المفضلة.....
انتهينا من الزيارة وطلب الجميع ان يستريحوا فى حديقة المتحف وما ان جلسنا حتى اتى لنا احد المخبرين المنتشرين هناك اكثر من السياح وطلب منا باسلوب مهين وبصوت عال ان نغادر المكان فما كان من صلاح وهو طالب الطب واكبرنا سنا ان قال له عيب تكلم طلبة جامعة بهذه الطريقة .....احنا مش شحاتين .....احنا مصريين ومن حقنا نقعد زى الاجانب خصوصا اننا قاعدين بأدبنا...... فما كان من المخبر الا ان اشتبك مع صلاح مقسما بان يجره امامه للبيه الضابط
بالطبع تحركنا كلنا كتلة واحدة ودخلنا نقطة شرطة المتحف وهناك وجدنا ضابطان احدهم برتبة رائد والاخر حديث التخرج يبدو ان واسطته الكبيرة قد اتت به الى هذا المكان المكيف بدلا من حر الصعيد .....

عندما دخلنا سأل الضابط الكبير المخبر.... فيه ايه ؟؟ ايه كل ده ؟؟
- رد المخبر وكان مازال ممسكا بتلابيب صلاح ...بيعاكسوا السياح يا باشا ......
- صرخ صلاح فى وجهه كداب ...كداب
- رد الضابط بصوت جهورى ما تتكلمش يا روح امك الا لما اقولك
- سكت صلاح فجأة وكأنه سمع خبرا هام ...حضرتك بتقول ايه ؟؟
اعاد الضابط كلماته وكأنه اسطوانة قديمه مشروخة
- فنظر اليه صلاح موجها كلامه له .....روح امى !! ليه كده ...تحب اقول لحضرتك كده ....ها تعمل ايه ساعتها ؟؟
واذ بالضابط ينتفض من وراء مكتبه قافزا ناحية صلاح وهو يصرخ ....
- تقول لمين ايه؟؟ يابن الكلب يا جزمة ....انت نسيت نفسك ولا ايه ؟؟
واذ بيده تهوى على وجه صلاح بقلم دوى صداه داخل الغرفة التى امتلئت بانفاسنا الخائفة...لحظات مرت علينا وكأنها سنوات قطعها صوت الظابط الصغير متسائلا...... انتم بتعملوا ايه هنا ؟؟
رددت بصوت مخنوق احنا طلبة جامعه فى معسكر القادة بحلوان وجايين نزور المتحف ؟؟
جاء صوت الضابط الكبير كالرعد .....قادة ايه يا ولاد ال.... انتو نسيتوا نفسكم ولا إيه ؟؟......الواد ده كلية ايه ؟؟مشيرا لصلاح فرد احد الزملاء ......طب اسيوط
طب عال عال علشان لما ترجع بلدكم يفضل القلم ده يفكرك انك تتكلم بادب فاهم ؟؟....فاهم؟؟...ما بتردش ليه يا روح امك ؟؟؟ فاهم ولا لأ .......مابتردش ليه ؟؟؟ كانت دموع صلاح تنساب غزيرة بلا صوت والضابط يصر على سماع اجابته ....فاهم ولا لأ ؟؟ لم يحل الموقف المتصاعد سوى الضابط الاخر الذى تدخل قائلا

- خلاص يا باشا اخد نصيبه واتعلم الادب ....يلا خدوا بعضكم كده وما اشوفش خلقتكم تانى.... فاهمين...... يلا غوروا فى ستين داهية ....
بالرغم من دخولى المتحف المصرى مئات المرات الا ان هذه المرة لم تكن كسابقتها ...هذه المرة دخلت شخصا وخرجت شخصا اخر ..... خرجنا لم ينظر احدنا فى عين الاخر ...لم نتكلم ....سار صلاح فى المقدمة وحيدا ونحن نسير وراءه كالقطيع بلا كلام ....يحتمى كل منا بالاخر وكاننا نهرب من خوف يلاحقنا او موت ينتظرنا ...اعترف لكم اننى عندما استحضر هذا المشهد يقشعر بدنى واحس بالم هائل ....
انتشر الخبر فى المعسكر واتى الينا المدير - وهو الان احد قيادات الحزب الهامة - وعندما استمع لما حدث طلب منا ان نتكلم مع مدير امن القاهرة والذى كان مقدرا له ان يجتمع بطلبة المعسكر فى الباكرلشرح سياسات الوزارة
وجاء الغد......وحضر مدير الامن والقى محاضرته عن شعار الشرطة وقتها ( الشرطة فى خدمة الشعب ) وحقوق الانسان والتعاون المثمر بين الشرطة والجماهير ............!!!!
بعد انتهاء المحاضرة جاء اوان الاسئلة ..لم يرفع احد يده !! فعلق مندهشا ما فيش اسئلة ولا ايه ؟؟ وكأن الجميع قد اتفق ضمنيا على الصمت....
رفع صلاح يده .....
- فقال له اتفضل يا بنى عايز تسال على ايه ؟؟؟
- اخذ صلاح الميكرفون وقال...... صلاح محمود طب اسيوط سابقا و ارهابى فى المستقبل ....
- نظر اليه مدير الامن مبتسما .......ليه كده بس ؟؟
- رد صلاح ...يا فندم انت اتكلمت كتير عن حقوق الانسان ....هوه من حقوق الانسان اننا نتبهدل يا فندم .....هوه من حقوق الانسان اننا نتشتم يا فندم ......هوه من حقوق الانسان اننا نضرب على وشنا بالقلم ....وهنا انفجر صلاح فى نحيب عالى وتساقطت دموعه ودموعى ودموع كل من كان بالقاعة
بذل القائمون على اللقاء جهدا كبيرا للسيطرة على الموقف ومضى وقت طويل قبل ان يتعهد مدير الامن بان يحقق فى الموضوع بنفسه واننا قبل ان ننهى معسكرنا سنعلم بنتيجة التحقيق وما جرى فيه ....
لا داعى لان اقول ان اليومين المتبقيين مرا دون حس ولا خبر بالرغم من تلميح مدير المعسكر كلما سالناه عما تم ؟؟ ان مدير الامن شخصية صارمة قوية ولا يسمح بمثل تلك الامور ابدا وحتما انه قد اتخذ قرار ولكن مشاغله الكبرى اكيد منعته من اخبارنا بالنتيجه ...
مرت ايام المعسكر ومرت ورائها ايام كثيرة كنت احاول ان ابتعد فيها عن زيارة المتحف الى ان جاء يوم اصر فيه زملاء الكلية على الالتقاء بداخله
ويومها مررت امام الغرفة المشئومة وحاولت ان امنع نفسى من النظر داخلها لكن عند مرورى امامها التفت فوجدته لا زال جالسا بعنجهيته التى قابلنا بها وضحكته الشريرة تملأ الغرفة وكأنه يرد على ....
ساعتها استدرت خارجا من المتحف وانا احس بالقهر والظلم
مرت سنوات وسنوات الى ان تقابلت مع صلاح مصادفة على الطائرة العائدة من فرانكفورت ....ساعتها قابلنى بالاحضان وانا اسأله بتعمل ايه فى المانيا يا اسيوطى ؟؟
رد على سؤالى بان اشار لدبله تطوق اصبعه .......اتجوزت المانية واعيش هنا من عشر سنين وعندى ولد وبنت .... ما حدش يقدر يضربهم بالقلم .....اختفت ابتسامتى ونظرت فى عينيه فوجدت بقايا دموع .....

محمد شلتوت

هناك 8 تعليقات:

  1. اولا يسعدنى انى اكون صاحبة اول تعليق
    ثانيا المدونة حلوة جدا والبوست دى هايلة
    اما تعليقى على الموقف هو فعلا موقف صعب والاصعب انه يتنسى خصوصا للشخص اللى حصله كده وكان طبيعى بعد اللى حصل وحقه اللى ضاع انه يروح مكان تانى
    وفقك الله...

    ردحذف
  2. قصة جديدة قديمة تحدث كل يوم وتمثل أحد ألوان القهر والظلم فى هذا البلد ..وكما هرب صلاح الى ألمانيا بحثا عن العدل ستهرب المئات والمئات من العقول الرافضة للظلم ليبنوا ويعمروا هناك ويتركون لنا الغوغاء والدهماء يهدمون ويدمرون هنا .. سلمت يداك

    ردحذف
  3. لقد جعلت دموعي تملأ عيني كما ملأت عيني صلاح
    أضحكتني في أول مقالك و أبكيتني في آخره
    صدقني يا محمد يا شلتوت انت كاتب كبير و كبير جدا كمان فعندما أقرأ مقالاتك هنا أو على الرابطة أعتقد لوهلة أني أقرأ لأحمد رجب أو يوسف معاطي لكن في مقالك هذا أيقنت أني أقرأ للكاتب الكبير ..... محمد شلتوت

    وفقك الله ...... علاء بس مش عاشور

    ردحذف
  4. اه يابلد

    فيكى اتقتل كل مولود اتولد كل انسان حب يكون فيكى ولد

    ردحذف
  5. فعلا المصرى دائما مهان فى بلده بوست رائع يا محمد بس ممكن تبقى تكبر الخط شوية

    ردحذف
  6. اول زياره ليا ومش هاتكون الاخيره
    انشالله انا كانت امنيه حياتى اكون مضيفه
    او اشتغل اوادرس الدراسه اللى تمكنى من انى الف العالم بس تقول ايه صعيده يارسول الله
    حكايات شيقه جدا اتمنى تتكلم مره عن سوريا
    سوريا دى بالنسبه لى بلاد الاحلام
    تحياتى

    ردحذف
  7. الله عليك الله يا أبو حميد

    ردحذف