الخميس، 2 ديسمبر 2010

حكاية كل يوم

كان الشارع الذى كنت اسكن فيه بحلوان اشبه بحارات السينما المصرية القديمة والذى ما ان يهل منظره على الشاشة حتى تحس بالدفء وتشعر بان الناس كلها اهلك وعشيرتك . على ناصية الشارع كان هناك الاسطى فلفل العجلاتى الجميل والذى كان اكراما لابائنا يؤجر لنا اى عجلة نختارها دون ترك العربون الشهير والذى اشتهرت به المناطق الشعبية فى مصر الا وهو ترك الحذاء او الشبشب مرهونا حتى يضمن رجوعنا فى الميعاد المحدد والا استلمت حذائك ناقصا فردة حتى تدفع فرق الوقت .....كان الاسطى فلفل عظيما وهو يشخط فى ابناء المناطق الاخرى والذين يشتكون من فرق المعاملة ......ايه هوه انتو ولاد المنطقة !!! كل واحد من دول اعرف ابوه واهله ....اما انتم اعرفكم منين ؟؟؟
والى جوار الاسطى فلفل كان يوجد محل عم انور المكوجى ...هذا الرجل العجيب والذى كان قادرا على كى اصعب انواع الاقمشة فتخرج من تحت يديه ملساء من غير سوء...... بالاضافة الى قدرته المدهشة على اخفاء لسعات المكاوى وكانه يرسل برسائله لكل ربات البيوت ...بان يعطوا العيش لخبازه ..... ورغم مهارة عم انور الفائقة الاانه كان ذو عيب خطير ....كان مدمنا للسجائر ....طب وايه المشكلة ؟؟ المشكلة ان كل الملابس التى كان يكويها كانت ترجع الينا معبقة حتى الثمالة برائحة سجائره الغزيرة والتى تجعل منك وانت الذى لم تشرب سيجارة واحدة فى حياتك ثم ارتديت الملابس التى كواها تجعلك وكانك ولدت فى مصنع للسجائر...... ورغم هذا ورغم كراهية ابى الشديدة لرائحة السجائر الا انه كان يصر على ذهاب الملابس له مفضلا اياه على ذلك المكوجى البعيد والذى تعامل معه ابى ذات مرة فاقسم بعدها انه لن يعود له معلنا انتصارعم انور بجملة شهيرة لا زلت اتذكرها .....على الاقل انور بيشرب سجاير مستوردة !!!!
كنت قبل ذهابى للمدرسة صباحا اذهب لعم انور لاسلمه ملابسنا التى لا تزال تحمل ندى الصباح على ان يعود لنا بها فى اخره محملة برائحة السجائر وكنت ارى الرجل وقد بدأ نهاره بعمل فنجان القهوة والتى كم تمنيت يوما ان اساله عن اى نوع من البن كان يشرب .....يالله كم كانت ذات رائحة جميلة عتيقة وصوت الشيخ محمد رفعت يصدح من مذياع تم ضبطه على اذاعة القران الكريم ......طوال عشرون عاما رايته فيها لم يتخل الرجل عن عاداته الصباحية وكانها قانون قد وطن نفسه على احترامه .....لم يكن له صديقا فى الشارع غير الاسطى فلفل ربما كان هذا لتجاور المحلان او لصداقة قديمة لا يعرف سكان الشارع اين بدات وكيف ؟؟؟
كان سكن عم انور هو ذات المحل ولم نعرف له اسرة ولا ابناء وعندما شببنا عن الطوق اخذنا نتسائل كيف يعيش الرجل فى هذا المكان وكيف يقضى حاجته وكيف يعد طعامه ؟؟؟ الا ان اسالتنا لم نجد لها اجوبة وخاصة اننا لم نكن نرى الرجل الا مهندما معتنى بنفسه يقف على ناصية الشارع كل يوم جمعه يسلم على الخارجين من المسجد...... الا اننا ابدا لم نره يصلى او حتى شاهدناه داخلا للمسجد او خارجا منه !!!!
الى ان جاء يوم استيقظ فيه الشارع على صوت عربة اسعاف تحمل جثمان عم انور بعد ان اصابته ازمة قلبية شديدة لم يستطع اثنائها ان ينادى على احد فمات وهو يجاهد ليفتح باب دكانه .....
لم يكتشف الوفاة غير الاسطى فلفل والذى جاء كعادته ليلقى تحية الصباح على صديقه فلم يرد...... فشك فى الامر....وفتح باب الدكان ليجد صديق عمره ممدا بطول المحل وصوت الشيخ محمد رفعت ياتى من خلفه وكانه ينعيه .....
لم ارى الاسطى فلفل طيلة حياتى حزينا كما رايته يوم موت عم انور
كانت صداقتهم حقيقية ليس فيها مصلحة او ادعاء ...
وذهبنا جميعا خلف الرجل الذى عاش بيننا عمرا بالامانة والصدق فلم نرى منه مكروها ولم نجرب عليه غشا او خيانة ....
وهناك حيث المقر الابدى لجثمانه اكتشفنا ما كان خافيا علينا طوال حياته ......عم انور كان.............. مسيحى .


وتمر اعوام ....واعوام ....وبعد تلك الحادثة بعشرة اعوام حدث معى الاتى


احد ايام شهر رمضان والطائرة متجهة فى طريقها لمطار فرانكفورت بالمانيا واثناء تقديم وجبة الغذاء طلبت منى تلك السيدة العجوز ان اضع لها وجبتها بالكامل داخل كيس بلاستيك كى تفطر بها عند حلول اذان المغرب
فاجبتها باننى سافعل لها ماتريد باستثناء الوجبة الساخنه والتى سيصعب وضعها داخل كيس لاحتوائها على صوص اللحم ....بالاضافة الى طول الفترة حتى وقت اذان المغرب مما سيجعلها اقرب للوجبات المثلجة ......
علا صوت السيدة العجوز وهى تطلب منى ان انفذ لها ما تريد وتجهم وجهها وهى تنظر لى مصممة على رايها وانها لن تتنازل عن حقها ابدا ...ابدا
لم ينه النقاش الا تدخل زميلى شريف والذى توجه اليها بقوله خلاص يا امى اللى انتى عايزاه هنعملهولك ....بس انتى اوعى تزعلى مننا .....ولما تيجى تفطرى اوعى تنسى تدعيلنا .....
وانسحب من امامها ساحبا يدى الى داخل المطبخ الخاص بالطائرة وانا اغلى من الغضب وعلى وجهه ابتسامة قائلا
- جرى ايه يا صاحبى انت هتتخانق مع الحاجة عشان وجبة ؟؟؟
- ماهو يا شريف انت مش شايف هيه عايزة ايه ؟؟؟
- معلهش ...يمكن محتاجة الوجبة ؟؟؟
- طب هنقفل الوجبة ازاى ؟؟؟ ده لو الصوص وقع هيبهدل الدنيا ؟؟؟
- سيبللى انت الحكاية دى .... انا هاقفلها كويس
وبعد ان احكم اغلاقها وضعها داخل كيس بلاستيك ولفها لفا محكما وقدمها للسيدة التى تقبلتها منه شاكرة وبعد ان امطرته بوابل من الدعوات بالصحة والعافية قالت له بصوت سمعته وانا اقف ورائها دون ان ترانى :
- اكيد زميلك التانى ده مسيحى ....ده لا بيرحم ولا عايز رحمة ربنا تنزل
- فرد شريف : معلهش يا امى ...امسحيها فيا انا
- انت ...انت ربنا يكرمك .....بالمناسبة انت اسمك ايه عشان اكتبللك جواب شكر
- اسمى شريف يا امى ؟؟؟
- ايوه شريف ايه ؟؟
- اسمى شريف ادوارد .....مسيحى واسم زميلى محمد وده اكيد مش مسيحى !!!
منذ هذه اللحظة وحتى هبوط الطائرة فى مطار فرانكفورت لم تطلب السيدة منا شيئا ولم تقو على النظر الينا وعند المغادرة كانت تجرى لتغادر الطائرة سريعا حتى انها من فرط سرعتها نسيت شنطة يدها والتى حملها شريف ليلحق بها سريعا قبل ان تغادر الطائرة قائلا : ماتنسيش تدعيللى يا امى ....

محمد شلتوت

هناك 9 تعليقات:

  1. انا اعرف ان زمان كانت الناس ابوابهم مفتوحة لبعض
    مفيش حد بيفكر فى ديانة التناى
    كل الناس كانت بتحب بعض وتسأل على بعض
    المفروض ان الدين لله
    بجد البوست ده حلو اوى

    ردحذف
  2. انا مضيفه جويه ومسلمه وبجد اكتر انسان وقف جنبي وساعدني في كل حاجه في حياتي كان مسيحي ربنا يباركلوا في اولادوا ويبعد عنوا كل شر.. بجد انا ساعات بحس ان احنا واحد نفس النشاكل والهموم وكمان نفس الافراح لدرجه ان ساعات بحس ان ربنا عوضني بيه عن غياب والدي .. وبجد عمر ما دا كان مقياس للانسان لان الدين لله .. وبجد للاسف ان لسه في ناس بتفكر كدا

    ردحذف
  3. حلوة اوي يا محمد..ياة نسيت تقول لما كنا صغيرين و احنا بنلعب مع بعض كلنا مسيحيين و مسلمين..كنت تقدر تقول لصاحبك لأ انا مش هالعب معاك عشان انت مسيحي او كنت تخرج من عيادة الدكتور لما تعرف انة قبطي؟!كل واحد في الشارع بتاعةالف واحد عم أنور
    ما كانش فية حاجة من دي زمان أية اللي حصل؟اللي حصل ان ان الطائفية في مصر مشكلة اجتماعية و مش سياسية زي ما هوة واضح...احنا اتغيرنا مسلمين و مسيحيين,المسلم بيسئ الظن بالمسيحي و المسيحي بيسئ الظن بالمسلم
    نسينا ان احنا كلنا واحد و لو اي كارثة لا قدر اللة حصلت لمصر هنحط ايدينا في ايدين بعض زي زمانو الا لازم تحصل غشان نفوق؟!و عاش الهلال مع الصليب

    ردحذف
  4. للاسف معندناش ثقافه تقبل الاخر رغم ان هى دى روح الاسلام لا اعرف من اين جاء هذا التعصب الاعمى

    ردحذف
  5. محمد
    ازيك
    بوست رائع طبعا

    ردحذف
  6. ازيك يا شلتوت كل سنة وانت طيب ، بجد واحشني يا واد ، والله زمان فينك وفين ايامك واايام الكلية... ، تعرف ... من اكتر الحاجات اللي بافتقدها في غربتي إني مش باقدر اقابل كام واحد من اصحابي الغاليين قوي وطبعا إنت منهم، ربنا يوفقك.... شكلي هاغير منك وابدأ اكتب في مدونتي
    اخوك الكبير مؤنس

    ردحذف
  7. أزال المؤلف هذا التعليق.

    ردحذف