الساعة تقترب من الواحدة صباحا واليوم هو يوم رؤية هلال شهر رمضان الكريم وانا وزوجتى قد اتفقنا على الخروج مساءا لشراء ما نقص من مؤونة رمضان والاولاد لاول مرة ينامون مبكرين فى هدوء بدون خسائر فى البيت او اصابات كبيرة فى الاجسام..... كل هذا جعلنى امدد جسدى على الفراش وانا قرير العين والانف والاذن والحنجرة
...... وبما ان بقاء الحال من المحال ..... واغلب لحظات الهدوء والسعادة تمر سريعا وبغتة ...... فقد باغتنى تليفون قادم من زميل لى فى مكتب تشغيل رحلات الضيافة يقول لى
- ..... اجهز يا محمد وحياة ابوك احنا عايزينك على رحلة ناقصة ولازم تطلعها.....!!! حقيقة لم استطع الرد لسببين ....
اولهما عنصر المفاجاة ...... ثانيهما لانى احمل تقديرا كبيرا لهذا الشخص لانه ساعدنى كثيرا اثناء تجهيز رسالة الماجستير الملعونة والتى جعلتنى مدينا بكثير من المجاملات لمن اعرف ولمن لا اعرف .......!!!
رددت بعد ان تماسكت قليلا ..... طيب ... الرحلة فين ؟؟؟
- الرحلة يا سيدى الاقصر- الكويت
قلت فى نفسى ...طب الحمد لله مقدور عليها ..... فاكمل كلماته القاصمة .....يوم فى الاقصروثلاثة ايام فى الكويت هتشتغل فيهم سوهاج واسكندرية !؟؟؟!!!
- يا نهار ابيض .... ايه ده يا عم الحج ده ..... كده اول يومين فى رمضان بره البيت .... حرام عليكم والله ....
- معلهش يا محمد .... الموسم شديد وانت سيد العارفين ....يلا وضب نفسك ....انا اتفقتلك مع العربية ..... هاتفوت عليك كمان ساعة ......
- ايه ده ؟؟ يعنى مش هاكمل نومى !؟؟!... حرام عليكم ......
.................. لم اسمع ردا غير صفير فى الجانب الاخر
وصلت الى الاقصر والمدينة تستقبل صباحها بجو ينبئ بحر شديد وان كان لا وجود للرطوبة واثناء انتقالنا للفندق رايت شوارع المدينة وقد تزينت استعدادا لرمضان..... الفوانيس .... الورق الملون ... افرع الاضواء الكهربائية التى تزين الاشجارومداخل المنازل ...... رمضان هو رمضان فى اى مكان فيكى يا مصر ..... وقت ثورة مش ثورة .....
فيه سياحة مفيش ..... فيه فلوس مفيش ..... هو رمضان بنفحاته المباركة التى تظلل مصر كلها ......
ارتميت على سرير الغرفة والتى جعلها التكييف مكان مثالى لنوم عميق اكمل فيه ماانقطع واستعد فيه لرحلة فجرية فى الغد للكويت العاصمة ......
استيقظت وكانت الساعة تشير الى السادسة مساءا ..... تعجبت كيف مضى النهار كله وانا فى هذا الثبات العميق ..... الا ان ما احسست به من انتعاش وهدوء جعلنى اسامح نفسى على انها جعلتنى انام كالبعير مدة تقارب النهار كله .......
ارتديت ملابسى وقررت الجلوس فى تراس الفندق الفخم والمطل مباشرة على النيل ويكاد يقترب منه جدا حتى تحس كانك تجلس فى احد القوارب الصغيرة التى تقطع المشهد امامك جيئة وذهابا
المنظر خرافى .... مهما حكيت لكم لا استطيع وصفه .... النخيل على ضفة النهر كانه مرسوم فى لوحة ربانية عظيمة ..... المياه تجرى فى هدوء وسكينة ..... تجعل ضغط دمك يهبط دون ان تشعر ..... اصوات العصافير التى عادت من رحلتها الصباحية والساكنة فى تلك الشجيرات المتناثرة حول ضفة النهر تضيف للمشهد خلفية موسيقية عظيمة ......
اخذنى المشهد وقتا لا اعرف كم منه قد انقضى ولكننى افقت على انوار البر الغربى وقد بدات فى الانارة لتضئ وادى الملوك لتحول المشهد كله لجو اسطورى ..... جعلتنى اردد بصوت ظاهر الله .... الله ..... ايه الجمال ده !!!
قطع صوتى صوت الصمت المهيمن على المكان وادار السياح الموجودين – وهم قلة – رؤوسهم نحو الصوت وجاء ناحيتى الفتى المسؤول عن المشروبات قائلا ....
- فيه حاجة ... حضرتك ... تؤمر بحاجة ؟؟!!!
- قلت فى تاثر ...... ايه يا عم الجمال ده ؟!! هوه فيه كده فى الدنيا !!والله العظيم انا لفيت الدنيا مشفتش كده !! ايه الحلاوة دى .....
ابتسم الفتى الاسمر ..... ورد قائلا ..... وعارف بعد كل ده نسبة الاشغال فى الفندق كام ؟؟؟...... لا تتعدى العشرة فى المائة ..... واللى قاعدين قدامك دول .... جايين هنا بتراب الفلوس ..... يعنى واكل ....شارب ... نايم ....بالمزارات ....بالاتوبيسات .... بالطيارة رايح ...جاى ...باقل من اللى بيدفعه فى بلده والنبى مش ده حرام .....!!!
لا تستطيع ان تدخل مناقشة وانت تعلم تماما ان من تناقشه على صواب مائة بالمائة ومهما قلت له عن الاحوال السياسية والاقتصادية وان اللى جاى احسن ان شاء الله......
الا ان الناس لا تعيش غير يومها .... هى لا تهتم بالمستقبل لانها لا تعرفه.... كما ان كثرة الضربات جعلتهم لا يثقون به كثيرا .... ويحاولون ان يتناسوا الماضى ... حتى لا يتذكروا مراراته .....
انهيت اليوم بجولة فى البلد .... وختمته على مقهى بلدى فى احد الحوارى
..... استقبلنى شاب بالترحاب وهو يقول اهلا بالقاهرة واهل القاهرة.... سالته انت عرفت ازاى انى من لقاهرة ؟؟؟.....
رد بذكاء .... يا استاذ من اول ما تدخل عليا من باب القهوة اعرف جنسيتك على طول !!!! يبقى مش هاعرف انت منين فى مصر .... دى سهلة قوى .....
طلبت النارجيلة واثناء انتظارها لاحظت وجود سيدة عجوز اوروبية الملامح تجلس على الكرسى المقابل وتتحدث العربية بلكنة مصرية فائقة ..... عندما اتى الفتى بالشيشة سالته عنها .....
قاللى آه .... دى الحاجة فيكتوريا ..... دى واحدة انجليزية عايشة هنا من اكتر من عشرين سنه ومش عايزة ترجع بلدها وبتحب الاقصر مووووت والعيال هنا سموها الحاجة فيكتوريا يمكن عشان انجليزية ...... بس حق ربنا يا ستاذ .... ست طيبة جدا .... وخيرها على لصغير والكبير ..... ولما بتغيب بنسال عليها وهيه كمان بتسال علينا وتودنا ..... تقدر تقول بقت عشرة عمر ..... ضحكت فى داخللى ..... وادركت انه مهما حدث فلن يستطيع احد ان يغير مصر..... مصر قد تمرض ...... لكنها لا تمووووووت ......
يتبع ..... رحلة للكويت
محمد شلتوت